سيرة المعصومين بين النموذج النظري و الإقتداء العملي
ماجد عبد الهادي الفردان
قال تعالى : " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً " ....
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في وصف إقتدائه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " وكنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به " .
لا يشك احد بأن أفضل أسوة و أكمل قدوة على الإطلاق هو رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم , و من بعده أهل بيته من المعصومين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين , و لكن ما هي حدود هذا الإقتداء ؟ و هل إقتداءنا بالقدوة المعصومة يكون في كل مكان و زمان ؟ أو أنها مقيدة بظروف و أحوال ؟ و كيف نقتدي بمن لم نره و لم نسمع حديثه و لم نجلس معه ؟ البعض يقول : بأن أهل البيت عليهم السلام ذو مقام عالٍ و رفيع و إننا أناس ذوي ذنوب و معاصي و اقتداءنا بهم ليس ذو فائدة كوننا لن نصل إلى مقامهم و مراتبهم مهما بلغنا و عملنا ! , و آخر يقول : أنه من الغير الصحيح مقارنة واقعنا المعاش و عصرنا الحاضر بواقع أهل البيت و حاضرهم , فالزمان تغير و متطلبات الحياة تجددت و مشاكل العصر لم تعد كما كانت عليه في عصر المعصومين ؟!
كل هذا التساؤلات و غيرها نسمعها كثيراً و تتكرر على مسامعنا مراراً , و هذا نتاج فراغ علمي و روحي في نفوسنا حول وضوح أمر مهم و هو الإقتداء بالمعصومين عليهم السلام , حتى أصبحنا نبحث عن قدوة معاصرة في جوانب حياتنا السلوكية و الاجتماعية .
إن التأسي و الاقتداء ظاهرة بشرية فطرية فلا يخلوا مجتمع بشري منها , و هي بارزة بوضوح في كل المجتمعات فلا تحتاج إلى بحث و تقصي , حتى أصبح لكل مجتمع مجموعة من الأشخاص يمثلون النموذج الأكمل و الأمثل في الحياة أو بعض جوانبها, " والأسوة نظرية وعملية ، فالنظرية هي المبادئ والقوانين والسنن التي يتعلمها الإنسان ويتبناها كمعتقدات وقناعات وهذا مهم ، والأهم هو أن يكون هنالك شخص تتجسد فيه تلك المبادئ والقيم وتتحرك معه في كل مواقفه ، وهذا هو الأسوة العملية التي يراها الناس أمامهم تجسد النظرية عملاً وسلوكاً ، وهي أبلغ وأدعى للتأسي والاقتداء " .
و أشار القرآن الكريم إلى موضوع التأسي و الإقتداء وخصوصاً بجانبه العملي بالقادة الإلهين في مواضع متعددة منها الآية التي افتتحنا بها المقال , و منها قوله تعالى : "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ " وقوله تعالى : "أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ".
و في تفسير هذه الآيات يذكر العلامة الشيرازي في تفسيره الأمثل : "الاسوة تعني في الأصل الحالة التي يتلبسها الإنسان لدى اتباعه لآخر ... والطريف أن القرآن الكريم يعتبر هذه الاسوة الحسنة في الآية أعلاه مختصة بمن لهم ثلاث خصائص : الثقة بالله والإيمان بالمعاد وأنهم يذكرون الله كثيراً " , و في أهمية القدوة و كونها من أدلة عصمة الأنبياء يقول : "لأن أهم جانب من جوانب دعوة الأنبياء وأكثرها تأثيراً هي الدعوة العملية ، ولذلك فإن علماء الإسلام اعتبروا العصمة شرطاً لمقام النبوة ، وإحدى أدلتها وبراهينها هي أنهم يجب أن يكونوا «قدوة» للناس، و «اسوة» للبشر" , و يؤكد في موضع ثالث على أن التأسي و الإقتداء المطلوب هو التأسي و الإقتداء العملي الناتج عن المعرفة النظرية , لا ان تكون الأسوة نظرية تقرأ من الكتب و تسمع في الخطب الدينية و تنسى عند طي الكتاب و انتهاء الخطبة , حيث يقول : "أن التأسي بالنبي (صلى الله عليه وآله) الوارد في هذه الآية قد جاء بصورة مطلقة وهذا يشمل التأسي في كافة المجالات ... وإذا ما اتخذنا النبي (صلى الله عليه وآله) أسوة لنا في حياتنا حقاً ، في إيمانه وتوكله ، في إخلاصه وشجاعته ، في تنظيم أمره ونظافته ، وفي زهده وتقواه، فإن أسلوب حياتنا سيختلف تماماً ، وسيعم الضياء والسعادة كل زوايا حياتنا ونواحيها , يجب اليوم على كل المسلمين ، وخاصة الشباب المؤمن ، أن يقرؤوا سيرة نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله) بدقة متناهية ويحفظوها ، ويجعلوه قدوة و أسوة لهم في كل شيء ، فإن هذا التأسي والإقتداء به سبيل السعادة ، ومفتاح النصر والعزة" .
ان التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله و سلم و المعصومين من أهل بيته يشمل كافة جوانب الحياة الإنسانية السلوكية و الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية , فلا يوجد جانب من جوانب الحياة إلا و وصلنا من أهل البيت عليهم السلام ما يغنينا عن طلب المزيد من غيرهم .
ان الكثير و للأسف الشديد من شبابنا اليوم يرى أن المعصومين عليهم السلام قدوة نظرية بحتة موجودة في كتب على رفوف المكتبات أو تلقى على الأسماع في خطب المساجد أو على منابر الحسينيات ! و أصبح الكثير يبحث عن قدوة معاصرة و العجيب انه يريدها ان تكون معصومة !؟ ان كل هذه التساؤلات و التوقفات حول الإقتداء بالمعصوم لا تعدوا كونها وساوس شيطانية يراد منها إبعادنا عن المنهج الإسلامي الأصيل المتمثل في شخص المعصومين عليهم السلام , و إيجاد نوع من الحواجز بيننا و بينهم عليهم السلام , و المتأمل في سيرتهم و سيرة من حولهم ممن عاصرهم و من جاء بعدهم ممن تأثر بسيرتهم و سلوكهم سيرى من النماذج أعداد كثيرة ممن تأسى و اقتدى بهم عليهم السلام فحاز أعلى المراتب و أرفع الدرجات , ابتداءً بمن لازم المعصومين عليهم السلام من أبناءهم و زوجاتهم و من تشرف بخدمتهم , و من شرفه الله بصحبتهم و الأخذ من علومهم و معارفهم , و انتهاءً بالكثير من علمائنا الأعلام الذين يمثلون أروع نماذج الزهد و التقوى و الانقطاع إلى الله عز و جل إلى يومنا هذا , و من عاصر بعض هؤلاء أو قرأ في سيرتهم المباركة يعي ما نقول .
كما أن أهل البيت عليهم السلام أكدوا على أهمية الإقتداء العملي بهم من خلال حث شيعتهم على ذلك و تأكيدهم على شيعتهم أن يكونوا أسوة وقدوة عملية لا فقط قولية تنظيرية , فعن الإمام الصادق عليه السلام : " كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم" , وعنه عليه السلام : "كونوا لنا دعاة صامتين " , أي بسلوككم و سيرتكم الحياتية , و اجعلوها هي الحاكية عنكم و عن إتباعكم للمنهج الإسلامي في تعاملاتكم . وعن الإمام الرضا عليه السلام : "كونوا زيناً ولا تكونوا شيناً" وعن الإمام العسكري عليه السلام : "إن أحدكم إذا صدق في حديثه وأدى الأمانة قيل هذا شيعي فيسرني ذلك" . إن هذه الأحاديث و غيرها الكثير دالة بوضوح على أن المطلوب هو الإقتداء العملي التطبيقي بهم عليهم السلام , كونهم القدوة المعصومة الوحيدة في هذه الأمة .
وعلى هذا الأساس أكد علمائنا على ضرورة كون القدوة معصومة , و من ذلك ما ذكره العلامة المظفر في كتابه عقائد الإمامية : " الناس بحاجة إلى القدوة و الأسوة المتحركة في تطبيق الأحكام الإلهية و العمل بها , و الرسل الكرام هم القدوة و الأسوة , لأنهم نماذج صنعت على عين الله تعالى و تأدبوا بآدابه " . و ما ذكره العلامة الشيرازي في تفسيره الأمثل : " وجود القدوة في حياة البشر مؤثر في تربيتهم و توجيههم , و لهذا السبب فإن النبي الأعظم و الأئمة المعصومين و بقية الأنبياء الكرام -على نبينا وآله وعليهم الصلاة و السلام - كانوا موضع هداية البشرية من خلال أعمالهم و التزاماتهم , و لهذا السبب فإن العصمة شرط أساسي لكل الأنبياء و الأئمة كي يكونوا لنا أسوة وقدوة " ويضيف :"الأسوة هنا لها معنى مصدري بمعنى التأسي والإقتداء العملي" .
و لقد كان الأئمة عليهم السلام على امتداد عصرهم و اختلاف أدوارهم حريصين كل الحرص على إيجاد القدوة الصالحة و تربية الجماعة الصالحة المحيطة بهم على أن يكونوا قدوة صالحة لمن حولهم , و قد عمل المعصومين عليهم السلام على إيجاد القدوة العملية في حياة الأمة و تجسدها في شخصهم الشريف , يذكر الشهيد السيد الصدر في هذا الصدد : " دائماً كان الأئمة عليهم السلام يفكرون في أن يقدموا الإسلام لمجموع الأمة الإسلامية , أن يكونوا مناراً أن يكونوا أطروحة أن يكونوا مثلاً أعلى , كانوا يعملون على خطين , خط بناء المسلمين الصالحين , و خط ضرب مثلاً أعلى لهؤلاء المسلمين " .
و يقول الشهيد محمد باقر الحكيم في مرجعية المعصومين في مجال الاقتداء : " إن المنهج الإسلامي هو منهج واقعي للحياة ... و هو كمنهج نظري يراد تطبيقه في الواقع بحاجة إلى قدوة تجسده في الواقع كي يقتدي بها الناس ليندفعوا اشواطاً إلى الأمام في مسيرة التنفيذ و التطبيق , و لهذا ركز الإمام على القدوة الناطقة بالكتاب و السنة و هم أهل البيت عليهم السلام " , و لهذا فقد عمل الأئمة عليهم السلام على إبراز موقعهم الأساسي و دورهم المحوري في الأمة الإسلامية قدوة و أسوة , فالإمام الصادق عليه السلام مثلاً عندما أتيحت له فرصة النهوض بجامعته العلمية الإسلامية الكبرى كان يؤكد على "كونه القدوة الصالحة و المثال الواقعي الذي تتجسد في شخصه أخلاق الرسالة مما يكون موقعاً لإشعاع الفضيلة و نموها" , وحين أراد المأمون وضع الإمام الرضا عليه السلام موضع الاختبار في قبال الأمة بفرض دور ولاية العهد على الإمام عليه السلام " وقد أدى الإمام هذا الدور اداءاً مطابقاً لقيم الإسلام الثابتة , و أبرز للمسلمين نموذجاً من أرقى نماذج الخلق الإسلامي الرفيع , و كان قمة في الصدق و أداء الأمانة و الوفاء بالعهد و التواضع و احترام الآخرين و الاهتمام بالمسلمين و قضاء حوائجهم " .
فليس للأمة سبيل للنهوض فكرياً و أخلاقياً و سلوكياً و في جميع مجالات الحياة الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و العلمية , إلا بإتباع قادة إلهيين و نماذج ربانيين , و هذا ما دلت عليه عبارات الزيارة الجامعة الكبيرة المروية عن الإمام الهادي عليه السلام : " سعد من والاكم وهلك من عاداكم وخاب من جحدكم وضل من فارقكم وفاز من تمسك بكم وأمن من لجأ إليكم وسلم من صدقكم وهدي من اعتصم بكم من اتبعكم فالجنة مأواه ومن خالفكم فالنار مثواه " .
و هذا كله غيض من فيض الإقتداء بالمعصومين عليهم الصلاة و السلام . نسأل الله عز و جل أن يجعلنا من المقتدين بأئمة الهدى و المتأسين بالعروة الوثقى , " اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني " .
__________________________ ____
المصادر :
1- مواعظ قرآنية , إعداد و تأليف مركز نون للتأليف و الترجمة .
2- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل , الجزء الثالث عشر و الجزء الثامن عشر , سماحة آية الله العلامة الشيخ ناصر مكارم الشيرازي .
3- عقائد الإمامية , العلامة الشيخ محمد رضا المظفر .
4- أهل البيت تنوع أدوار و وحدة هدف , آية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر .
5- موسوعة " اعلام الهداية " , الجزء السابع و الجزء العاشر , إعداد و تأليف المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام .
6- مفاتيح الجنان , الشيخ المحقق عباس القمي .
* ماجد عبد الهادي الفردان
ذكرى ميلاد الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
11 / ذو القعدة / 1434 هـ
ماجد عبد الهادي الفردان
قال تعالى : " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً " ....
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في وصف إقتدائه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " وكنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به " .
لا يشك احد بأن أفضل أسوة و أكمل قدوة على الإطلاق هو رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم , و من بعده أهل بيته من المعصومين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين , و لكن ما هي حدود هذا الإقتداء ؟ و هل إقتداءنا بالقدوة المعصومة يكون في كل مكان و زمان ؟ أو أنها مقيدة بظروف و أحوال ؟ و كيف نقتدي بمن لم نره و لم نسمع حديثه و لم نجلس معه ؟ البعض يقول : بأن أهل البيت عليهم السلام ذو مقام عالٍ و رفيع و إننا أناس ذوي ذنوب و معاصي و اقتداءنا بهم ليس ذو فائدة كوننا لن نصل إلى مقامهم و مراتبهم مهما بلغنا و عملنا ! , و آخر يقول : أنه من الغير الصحيح مقارنة واقعنا المعاش و عصرنا الحاضر بواقع أهل البيت و حاضرهم , فالزمان تغير و متطلبات الحياة تجددت و مشاكل العصر لم تعد كما كانت عليه في عصر المعصومين ؟!
كل هذا التساؤلات و غيرها نسمعها كثيراً و تتكرر على مسامعنا مراراً , و هذا نتاج فراغ علمي و روحي في نفوسنا حول وضوح أمر مهم و هو الإقتداء بالمعصومين عليهم السلام , حتى أصبحنا نبحث عن قدوة معاصرة في جوانب حياتنا السلوكية و الاجتماعية .
إن التأسي و الاقتداء ظاهرة بشرية فطرية فلا يخلوا مجتمع بشري منها , و هي بارزة بوضوح في كل المجتمعات فلا تحتاج إلى بحث و تقصي , حتى أصبح لكل مجتمع مجموعة من الأشخاص يمثلون النموذج الأكمل و الأمثل في الحياة أو بعض جوانبها, " والأسوة نظرية وعملية ، فالنظرية هي المبادئ والقوانين والسنن التي يتعلمها الإنسان ويتبناها كمعتقدات وقناعات وهذا مهم ، والأهم هو أن يكون هنالك شخص تتجسد فيه تلك المبادئ والقيم وتتحرك معه في كل مواقفه ، وهذا هو الأسوة العملية التي يراها الناس أمامهم تجسد النظرية عملاً وسلوكاً ، وهي أبلغ وأدعى للتأسي والاقتداء " .
و أشار القرآن الكريم إلى موضوع التأسي و الإقتداء وخصوصاً بجانبه العملي بالقادة الإلهين في مواضع متعددة منها الآية التي افتتحنا بها المقال , و منها قوله تعالى : "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ " وقوله تعالى : "أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ".
و في تفسير هذه الآيات يذكر العلامة الشيرازي في تفسيره الأمثل : "الاسوة تعني في الأصل الحالة التي يتلبسها الإنسان لدى اتباعه لآخر ... والطريف أن القرآن الكريم يعتبر هذه الاسوة الحسنة في الآية أعلاه مختصة بمن لهم ثلاث خصائص : الثقة بالله والإيمان بالمعاد وأنهم يذكرون الله كثيراً " , و في أهمية القدوة و كونها من أدلة عصمة الأنبياء يقول : "لأن أهم جانب من جوانب دعوة الأنبياء وأكثرها تأثيراً هي الدعوة العملية ، ولذلك فإن علماء الإسلام اعتبروا العصمة شرطاً لمقام النبوة ، وإحدى أدلتها وبراهينها هي أنهم يجب أن يكونوا «قدوة» للناس، و «اسوة» للبشر" , و يؤكد في موضع ثالث على أن التأسي و الإقتداء المطلوب هو التأسي و الإقتداء العملي الناتج عن المعرفة النظرية , لا ان تكون الأسوة نظرية تقرأ من الكتب و تسمع في الخطب الدينية و تنسى عند طي الكتاب و انتهاء الخطبة , حيث يقول : "أن التأسي بالنبي (صلى الله عليه وآله) الوارد في هذه الآية قد جاء بصورة مطلقة وهذا يشمل التأسي في كافة المجالات ... وإذا ما اتخذنا النبي (صلى الله عليه وآله) أسوة لنا في حياتنا حقاً ، في إيمانه وتوكله ، في إخلاصه وشجاعته ، في تنظيم أمره ونظافته ، وفي زهده وتقواه، فإن أسلوب حياتنا سيختلف تماماً ، وسيعم الضياء والسعادة كل زوايا حياتنا ونواحيها , يجب اليوم على كل المسلمين ، وخاصة الشباب المؤمن ، أن يقرؤوا سيرة نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله) بدقة متناهية ويحفظوها ، ويجعلوه قدوة و أسوة لهم في كل شيء ، فإن هذا التأسي والإقتداء به سبيل السعادة ، ومفتاح النصر والعزة" .
ان التأسي بالنبي صلى الله عليه وآله و سلم و المعصومين من أهل بيته يشمل كافة جوانب الحياة الإنسانية السلوكية و الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية , فلا يوجد جانب من جوانب الحياة إلا و وصلنا من أهل البيت عليهم السلام ما يغنينا عن طلب المزيد من غيرهم .
ان الكثير و للأسف الشديد من شبابنا اليوم يرى أن المعصومين عليهم السلام قدوة نظرية بحتة موجودة في كتب على رفوف المكتبات أو تلقى على الأسماع في خطب المساجد أو على منابر الحسينيات ! و أصبح الكثير يبحث عن قدوة معاصرة و العجيب انه يريدها ان تكون معصومة !؟ ان كل هذه التساؤلات و التوقفات حول الإقتداء بالمعصوم لا تعدوا كونها وساوس شيطانية يراد منها إبعادنا عن المنهج الإسلامي الأصيل المتمثل في شخص المعصومين عليهم السلام , و إيجاد نوع من الحواجز بيننا و بينهم عليهم السلام , و المتأمل في سيرتهم و سيرة من حولهم ممن عاصرهم و من جاء بعدهم ممن تأثر بسيرتهم و سلوكهم سيرى من النماذج أعداد كثيرة ممن تأسى و اقتدى بهم عليهم السلام فحاز أعلى المراتب و أرفع الدرجات , ابتداءً بمن لازم المعصومين عليهم السلام من أبناءهم و زوجاتهم و من تشرف بخدمتهم , و من شرفه الله بصحبتهم و الأخذ من علومهم و معارفهم , و انتهاءً بالكثير من علمائنا الأعلام الذين يمثلون أروع نماذج الزهد و التقوى و الانقطاع إلى الله عز و جل إلى يومنا هذا , و من عاصر بعض هؤلاء أو قرأ في سيرتهم المباركة يعي ما نقول .
كما أن أهل البيت عليهم السلام أكدوا على أهمية الإقتداء العملي بهم من خلال حث شيعتهم على ذلك و تأكيدهم على شيعتهم أن يكونوا أسوة وقدوة عملية لا فقط قولية تنظيرية , فعن الإمام الصادق عليه السلام : " كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم" , وعنه عليه السلام : "كونوا لنا دعاة صامتين " , أي بسلوككم و سيرتكم الحياتية , و اجعلوها هي الحاكية عنكم و عن إتباعكم للمنهج الإسلامي في تعاملاتكم . وعن الإمام الرضا عليه السلام : "كونوا زيناً ولا تكونوا شيناً" وعن الإمام العسكري عليه السلام : "إن أحدكم إذا صدق في حديثه وأدى الأمانة قيل هذا شيعي فيسرني ذلك" . إن هذه الأحاديث و غيرها الكثير دالة بوضوح على أن المطلوب هو الإقتداء العملي التطبيقي بهم عليهم السلام , كونهم القدوة المعصومة الوحيدة في هذه الأمة .
وعلى هذا الأساس أكد علمائنا على ضرورة كون القدوة معصومة , و من ذلك ما ذكره العلامة المظفر في كتابه عقائد الإمامية : " الناس بحاجة إلى القدوة و الأسوة المتحركة في تطبيق الأحكام الإلهية و العمل بها , و الرسل الكرام هم القدوة و الأسوة , لأنهم نماذج صنعت على عين الله تعالى و تأدبوا بآدابه " . و ما ذكره العلامة الشيرازي في تفسيره الأمثل : " وجود القدوة في حياة البشر مؤثر في تربيتهم و توجيههم , و لهذا السبب فإن النبي الأعظم و الأئمة المعصومين و بقية الأنبياء الكرام -على نبينا وآله وعليهم الصلاة و السلام - كانوا موضع هداية البشرية من خلال أعمالهم و التزاماتهم , و لهذا السبب فإن العصمة شرط أساسي لكل الأنبياء و الأئمة كي يكونوا لنا أسوة وقدوة " ويضيف :"الأسوة هنا لها معنى مصدري بمعنى التأسي والإقتداء العملي" .
و لقد كان الأئمة عليهم السلام على امتداد عصرهم و اختلاف أدوارهم حريصين كل الحرص على إيجاد القدوة الصالحة و تربية الجماعة الصالحة المحيطة بهم على أن يكونوا قدوة صالحة لمن حولهم , و قد عمل المعصومين عليهم السلام على إيجاد القدوة العملية في حياة الأمة و تجسدها في شخصهم الشريف , يذكر الشهيد السيد الصدر في هذا الصدد : " دائماً كان الأئمة عليهم السلام يفكرون في أن يقدموا الإسلام لمجموع الأمة الإسلامية , أن يكونوا مناراً أن يكونوا أطروحة أن يكونوا مثلاً أعلى , كانوا يعملون على خطين , خط بناء المسلمين الصالحين , و خط ضرب مثلاً أعلى لهؤلاء المسلمين " .
و يقول الشهيد محمد باقر الحكيم في مرجعية المعصومين في مجال الاقتداء : " إن المنهج الإسلامي هو منهج واقعي للحياة ... و هو كمنهج نظري يراد تطبيقه في الواقع بحاجة إلى قدوة تجسده في الواقع كي يقتدي بها الناس ليندفعوا اشواطاً إلى الأمام في مسيرة التنفيذ و التطبيق , و لهذا ركز الإمام على القدوة الناطقة بالكتاب و السنة و هم أهل البيت عليهم السلام " , و لهذا فقد عمل الأئمة عليهم السلام على إبراز موقعهم الأساسي و دورهم المحوري في الأمة الإسلامية قدوة و أسوة , فالإمام الصادق عليه السلام مثلاً عندما أتيحت له فرصة النهوض بجامعته العلمية الإسلامية الكبرى كان يؤكد على "كونه القدوة الصالحة و المثال الواقعي الذي تتجسد في شخصه أخلاق الرسالة مما يكون موقعاً لإشعاع الفضيلة و نموها" , وحين أراد المأمون وضع الإمام الرضا عليه السلام موضع الاختبار في قبال الأمة بفرض دور ولاية العهد على الإمام عليه السلام " وقد أدى الإمام هذا الدور اداءاً مطابقاً لقيم الإسلام الثابتة , و أبرز للمسلمين نموذجاً من أرقى نماذج الخلق الإسلامي الرفيع , و كان قمة في الصدق و أداء الأمانة و الوفاء بالعهد و التواضع و احترام الآخرين و الاهتمام بالمسلمين و قضاء حوائجهم " .
فليس للأمة سبيل للنهوض فكرياً و أخلاقياً و سلوكياً و في جميع مجالات الحياة الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و العلمية , إلا بإتباع قادة إلهيين و نماذج ربانيين , و هذا ما دلت عليه عبارات الزيارة الجامعة الكبيرة المروية عن الإمام الهادي عليه السلام : " سعد من والاكم وهلك من عاداكم وخاب من جحدكم وضل من فارقكم وفاز من تمسك بكم وأمن من لجأ إليكم وسلم من صدقكم وهدي من اعتصم بكم من اتبعكم فالجنة مأواه ومن خالفكم فالنار مثواه " .
و هذا كله غيض من فيض الإقتداء بالمعصومين عليهم الصلاة و السلام . نسأل الله عز و جل أن يجعلنا من المقتدين بأئمة الهدى و المتأسين بالعروة الوثقى , " اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني " .
__________________________
المصادر :
1- مواعظ قرآنية , إعداد و تأليف مركز نون للتأليف و الترجمة .
2- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل , الجزء الثالث عشر و الجزء الثامن عشر , سماحة آية الله العلامة الشيخ ناصر مكارم الشيرازي .
3- عقائد الإمامية , العلامة الشيخ محمد رضا المظفر .
4- أهل البيت تنوع أدوار و وحدة هدف , آية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر .
5- موسوعة " اعلام الهداية " , الجزء السابع و الجزء العاشر , إعداد و تأليف المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام .
6- مفاتيح الجنان , الشيخ المحقق عباس القمي .
* ماجد عبد الهادي الفردان
ذكرى ميلاد الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
11 / ذو القعدة / 1434 هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق